سورة الإسراء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)}
اعلم أن المقصود من هذه الآية الرد على المشركين وقد ذكرنا أن المشركين كانوا يقولون ليس لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله تعالى فنحن نعبد بعض المقربين من عباد الله وهم الملائكة، ثم إنهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالاً وصورة واشتغلوا بعبادته على هذا التأويل والله تعالى احتج على بطلان قولهم في هذه الآية فقال: {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مّن دُونِهِ} وليس المراد الأصنام لأنه تعالى قال في صفتهم: {أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة} وابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام ألبتة.
إذا ثبت هذا فنقول: إن قوماً عبدوا الملائكة فنزلت هذه الآية فيهم، وقيل: إنها نزلت في الذين عبدوا المسيح وعزيراً، وقيل: إن قوماً عبدوا نفراً من الجن فأسلم النفر من الجن، وبقي أولئك الناس متمسكين بعبادتهم فنزلت هذه الآية، قال ابن عباس: كل موضع في كتاب الله تعالى ورد فيه لفظ زعم فهو كذب، ثم إنه تعالى احتج على فساد مذهب هؤلاء أن الإله المعبود هو الذي يقدر على إزالة الضرر، وإيصال المنفعة، وهذه الأشياء التي يعبدونها وهي الملائكة والجن والمسيح وعزير لا يقدرون على كشف الضر ولا على تحصيل النفع، فوجب القطع بأنها ليست آلهة.
ولقائل أن يقول: هذا الدليل إنما يتم إذا دللتم على أن الملائكة لا قدرة لها على كشف الضر ولا على تحصيل النفع فما الدليل على أن الأمر كذلك حتى يتم دليلكم؟ فإن قلتم: لأنا نرى أن أولئك الكفار كانوا يتضرعون إليها فلا تحصل الإجابة.
قلنا: معارضة لذلك قد نرى أيضاً أن المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى فلا تحصل الإجابة، والمسلمون يقولون: إن القدر الحاصل من كشف الضر وتحصيل النفع إنما يحصل من الله تعالى لا من الملائكة، وأولئك الكفار يقولون إنه يحصل من الملائكة لا من الله تعالى، وعلى هذا التقدير فالدليل غير تام.
والجواب: أن الدليل تام كامل، وذلك لأن الكفار كانوا مقرين بأن الملائكة عباد الله. وخالق الملائكة، وخالق العالم لابد وأن يكون أقدر من الملائكة، وأقوى منهم، وأكمل حالاً منهم.
وإذا ثبت هذا فنقول: كمال قدرة الله تعالى معلوم متفق عليه، وكمال قدرة الملائكة غير معلوم ولا متفق عليه، بل المتفق عليه أن قدرتهم بالنسبة إلى قدرة الله تعالى قليلة حقيرة، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الله تعالى أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة، لأن كون الله مستحقاً للعبادة معلوم، وكون الملائكة كذلك مجهول والأخذ بالمعلوم أولى، وأما أصحابنا المتكلمون من أهل السنة والجماعة فلهم في هذا الباب طريقة أخرى وهو أنهم يقيمون بالحجة العقلية على أنه لا موجد إلا الله تعالى ولا مخرج لشيء من العدم إلى الوجود إلا الله تعالى.
وإذا ثبت هذا ثبت أنه لا ضار ولا نافع إلا الله تعالى، فوجب القطع بأنه لا معبود إلا الله تعالى، وهذه الطريقة لا تتم للمعتزلة لأنهم لما جوزوا كون العبد موجداً لأفعاله امتنع عليهم الاستدلال على أن الملائكة لا قدرة لها على الإحياء والإماتة وخلق الجسم. وإذا عجزوا عن ذلك لم يتم لهم هذا الدليل فهذا هو ذكر الدليل القاطع على صحة قوله: {لاَّ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} والتحويل عبارة عن النقل من حال إلى حال ومكان إلى مكان يقال: حوله فتحول.
ثم قال تعالى: {أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة} وفيه قولان: الأول: قال الفراء قوله: {يَدَّعُونَ} فعل الآدميين العابدين. وقوله: {يَبْتَغُونَ} فعل المعبودين ومعناه أولئك المعبودين يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فإنه لا نزاع أن الملائكة يرجعون إلى الله في طلب المنافع ودفع المضار ويرجون رحمته ويخافون عذابه وإذا كان كذلك كانوا موصوفين بالعجز والحاجة، والله تعالى أغنى الأغنياء فكان الاشتغال بعبادته أولى.
فإن قالوا: لا نسلم أن الملائكة محتاجون إلى رحمة الله وخائفون من عذابه، فنقول: هؤلاء الملائكة إما أن يقال: إنها واجبة الوجود لذواتها، أو يقال: ممكنة الوجود لذواتها، والأول باطل لأن جميع الكفار كانوا معترفين بأن الملائكة عباد الله ومحتاجون إليه، وأما الثاني فهو يوجب القول بكون الملائكة محتاجين في ذواتها وفي كمالاتها إلى الله تعالى، فكان الاشتغال بعبادة الله أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة.
والقول الثاني: أن قوله: {أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ} هم الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ} [الإسراء: 55] وتعلق هذا الكلام بما سبق هو أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلا الله تعالى ولا يبتغون الوسيلة إلا إليه، فأنتم بالاقتداء بهم حق فلا تعبدوا غير الله تعالى.
واحتج القائلون بهذا القول على صحته بأن قالوا: الملائكة لا يعصون الله فلا يخافون عذابه، فثبت أن هذا غير لائق بالملائكة وإنما هو لائق بالأنبياء.
قلنا: الملائكة يخافون عذاب الله لو أقدموا على الذنب والدليل عليه قوله تعالى: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّي إله مّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29].
أما قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا} فالمراد أن من حقه أن يحذر، فإن لم يحذره بعض الناس لجهله فهو لا يخرج من كونه بحيث يجب الحذر عنه.


{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)}
اعلم أنه تعالى لما قال: {إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] بين أن كل قرية مع أهلها فلابد وأن يرجع حالها إلى أحد أمرين: إما الإهلاك وإما التعذيب قال مقاتل: أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة فبالعذاب، وقيل: المراد من قوله: {وَإِن مّن قَرْيَةٍ} قرى الكفار، ولا بد أن تكون عاقبتها أحد أمرين: إما الاستئصال بالكلية وهو المراد من الإهلاك أو بعذاب شديد دون ذلك من قتل كبرائهم وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال وأخذ الجزية، ثم بين تعالى أن هذا الحكم حكم مجزوم به واقع فقال: {كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُورًا} ومعناه ظاهر.


{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر الدليل على فساد قول المشركين وأتبعه بالوعيد أتبعه بذكر مسألة النبوة، وذلك لأن كفار قريش اقترحوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إظهار معجزات عظيمة قاهرة كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: {لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَةٍ} [طه: 133] {كَمَا أُرْسِلَ الأولون} [الأنبياء: 5] وقال آخرون: المراد ما طلبوه بقولهم: {لَن نُّؤْمِنَ لك حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90] وعن سعيد بن جبير أن القوم قالوا: إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء فمنهم: من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيي الموتى فأتنا بشيء من هذه المعجزات فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالأيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} وفي تفسير هذا الجواب وجوه:
الوجه الأول: المعنى أنه تعالى لو أظهر تلك المعجزات القاهرة ثم لم يؤمنوا بها بل بقوا مصرين على كفرهم فحينئذ يصيرون مستحقين لعذاب الاستئصال، لكن إنزال عذاب الاستئصال على هذه الأمة غير جائز، لأن الله تعالى أعلم أن فيهم من سيؤمن أو يؤمن أولادهم، فلهذا السبب ما أجابهم الله تعالى إلى مطلوبهم وما أظهر تلك المعجزات القاهرة.
روى ابن عباس أن أهل مكة سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن يزيل لهم الجبال حتى يزرعوا تلك الأراضي، فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك من الله تعالى فقال الله تعالى: إن شئت فعلت ذلك لكن بشرط أنهم إن كفروا أهلكتهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا أريد ذلك بل تتأنى بهم» فنزلت هذه الآية.
الوجه الثاني: في تفسير هذا الجواب أنا لا نظهر هذه المعجزات لأن آباءكم الذين رأوها لم يؤمنوا بها وأنتم مقلدون لهم، فلو رأيتموها أنتم لم تؤمنوا بها أيضاً.
الوجه الثالث: أن الأولين شاهدوا هذه المعجزات وكذبوا بها، فعلم الله منكم أيضاً أنكم لو شاهدتموها لكذبتم فكان إظهارها عبثاً، والعبث لا يفعله الحكيم.
ثم قال تعالى: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها} وفيه أبحاث:
البحث الأول: المعنى أن الآية التي التمسوها هي مثل آية ثمود، وقد آتيناها ثمود واضحة بينة ثم كفروا بها فاستحقوا عذاب الاستئصال فكيف يتمناها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتحكم على الله تعالى.
البحث الثاني: قوله تعالى: {مُبْصِرَةً} وفيه وجهان:
الأول: قال الفراء: {مُبْصِرَةً} أي مضيئة.
قال تعالى: {والنهار مُبْصِراً} [يونس: 67] أي مضيئاً.
الثاني: {مُبْصِرَةً} أي ذات أبصار أي فيها أبصار لمن تأملها يبصر بها رشده ويستدل بها على صدق ذلك الرسول.
البحث الثالث: قوله: {فَظَلَمُواْ بِهَا} أي ظلموا أنفسهم بتكذيبهم بها، وقال ابن قتيبة: {ظَلَمُواْ بِهَا} أي جحدوا بأنها من الله تعالى.
ثم قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بالأيات إِلاَّ تَخْوِيفًا} قيل: لا آية إلا وتتضمن التخويف بها عند التكذيب إما من العذاب المعجل أو من عذاب الآخرة.
فإن قيل: المقصود الأعظم من إظهار الآيات أن يستدل بها على صدق المدعي فكيف حصر المقصود من إظهارها في التخويف.
قلنا: المقصود أن مدعي النبوة إذا أظهر الآية فإذا سمع الخلق أنه أظهر آية فهم لا يعلمون أن تلك الآية معجزة أو مخوفة، إلا أنهم يجوزون كونها معجزة، وبتقدير أن تكون معجزة فلو لم يتفكروا فيها ولم يستدلوا بها على الصدق لاستحقوا العقاب الشديد، فهذا هو الخوف الذي يحملهم على التفكر والتأمل في تلك المعجزات، فالمراد من قوله: {وَمَا نُرْسِلُ بالأيات إِلاَّ تَخْوِيفًا} هذا الذي ذكرناه، والله أعلم.
واعلم أن القوم لما طالبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعجزات القاهرة، وأجاب الله تعالى بأن إظهارها ليس بمصلحة صار ذلك سبباً لجرأة أولئك الكفار بالطعن فيه وأن يقولوا له: لو كنت رسولاً حقاً من عند الله تعالى لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها منك، كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء، فعند هذا قوى الله قلبه وبين له أنه تعالى ينصره ويؤيده فقال: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس} وفيه قولان:
القول الأول: المعنى أن حكمته وقدرته محيطة بالناس فهم في قبضته وقدرته، ومتى كان الأمر كذلك فهم لا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره، والمقصود كأنه تعالى يقول له: ننصرك ونقويك حتى تبلغ رسالتنا وتظهر ديننا.
قال الحسن: حال بينهم وبين أن يقتلوه كما قال تعالى: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67].
والقول الثاني: أن المراد بالناس أهل مكة، وإحاطة الله بهم هو أنه تعالى يفتحها للمؤمنين فكان المعنى: وإذ بشرناك بأن الله أحاط بأهل مكة بمعنى أنه يغلبهم ويقهرهم ويظهر دولتك عليهم، ونظيره قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] وقال: {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} [آل عمران: 12] إلى قوله: {أَحَاطَ بالناس} لما كان كل ما يخبر الله عن وقوعه فهو واجب الوقوع، فكان من هذا الاعتبار كالواقع فلا جرم قال: {أَحَاطَ بالناس} وروي أنه لما تزاحف الفريقان يوم بدر ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش مع أبي بكر كان يدعو ويقول: أللهم إني أسألك عهدك ووعدك لي ثم خرج وعليه الدرع يحرض الناس ويقول: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر}.
ثم قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا الَّتي أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ} وفي هذه الرؤيا أقوال:
القول الأول: أن الله أرى محمداً في المنام مصارع كفار قريش فحين ورد ماء بدر قال: «والله كأني أنظر إلى مصارع القوم ثم أخذ يقول: هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان» فلما سمعت قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية، وكانوا يستعجلون بما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والقول الثاني: أن المراد رؤياه التي رآها أنه يدخل مكة وأخبر بذلك أصحابه، فلما منع عن البيت الحرام عام الحديبية كان ذلك فتنة لبعض القوم، وقال عمر لأبي بكر أليس قد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ندخل البيت ونطوف به، فقال أبو بكر إنه لم يخبر أنا نفعل ذلك في هذه السنة فسنفعل ذلك في سنة أخرى، فلما جاء العام المقبل دخلها، وأنزل الله تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق} [الفتح: 27] اعترضوا على هذين القولين فقالوا: هذه السورة مكية، وهاتان الواقعتان مدنيتان، وهذا السؤال ضعيف لأن هاتين الواقعتين مدنيتان أما رؤيتهما في المنام فلا يبعد حصولها في مكة.
والقول الثالث: قال سعيد بن المسيب رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء والإشكال المذكور عائد فيه لأن هذه الآية مكية وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة منبر، ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يبعد أن يرى بمكة أن له بالمدينة منبراً يتداوله بنو أمية.
والقول الرابع: وهو الأصح وهو قول أكثر المفسرين أن المراد بها ما أراه الله تعالى ليلة الإسراء، واختلفوا في معنى هذه الرؤيا فقال الأكثرون: لا فرق بين الرؤية والرؤيا في اللغة، يقال رأيت بعيني رؤية ورؤيا، وقال الأقلون: هذا يدل على أن قصة الإسراء إنما حصلت في المنام، وهذا القول ضعيف باطل على ما قررناه في أول هذه السورة، وقوله: {إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ} معناه: أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر لهم قصة الإسراء كذبوه وكفر به كثير ممن كان آمن به وازداد المخلصون إيماناً فلهذا السبب كان امتحاناً.
ثم قال تعالى: {والشجرة الملعونة فِي القرءان} وهذا على التقديم والتأخير، والتقدير: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس وقيل المعنى: والشجرة الملعونة في القرآن كذلك.
واختلفوا في هذه الشجرة، فالأكثرون قالوا: إنها شجرة الزقوم المذكورة في القرآن في قوله: {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم * طَعَامُ الأثيم} [الدخان: 43، 44] وكانت هذه الفتنة في ذكر هذه الشجرة من وجهين:
الأول: أن أبا جهل قال: زعم صاحبكم بأن نار جهنم تحرق الحجر حيث قال: {وَقُودُهَا الناس والحجارة} [التحريم: 6] ثم يقول: بأن في النار شجراً والنار تأكل الشجر فكيف تولد فيها الشجر.
والثاني: قال ابن الزبعري ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتزقموا منه، فأنزل الله تعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر: {إِنَّا جعلناك فِتْنَةً للظالمين} [الصافات: 63] الآيات.
فإن قيل: ليس في القرآن لعن هذه الشجرة.
قلنا: فيه وجوه:
الأول: المراد لعن الكفار الذين يأكلونها.
الثاني: العرب تقول لكل طعام مكروه ضار إنه ملعون.
والثالث: أن اللعن في أصل اللغة هو التبعيد فلما كانت هذه الشجرة الملعونة في القرآن مبعدة عن جميع صفات الخير سميت ملعونة.
القول الثاني: قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشجرة بنو أمية يعني الحكم بن أبي العاص قال ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام أن ولد مروان يتداولون منبره فقص رؤياه على أبي بكر وعمر وقد خلا في بيته معهما فلما تفرقوا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم يخبر برؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد ذلك عليه، واتهم عمر في إفشاء سره، ثم ظهر أن الحكم كان يتسمع إليهم فنفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الواحدي: هذه القصة كانت بالمدينة، والسورة مكية فيبعد هذا التفسير إلا أن يقال: هذه الآية مدنية ولم يقل به أحد، ومما يؤكد هذا التأويل قول عائشة لمروان لعن الله أباك وأنت في صلبه فأنت بعض من لعنه الله.
والقول الثالث: أن الشجرة الملعونة في القرآن هي اليهود لقوله تعالى: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ} [المائدة: 78].
فإن قال قائل: إن القوم لما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الإتيان بالمعجزات القاهرة فأجاب أنه لا مصلحة في إظهارها لأنها لو ظهرت ولم تؤمنوا نزل الله عليكم عذاب الاستئصال، وذلك غير جائز وأي تعلق لهذا الكلام بذكر الرؤيا التي صارت فتنة للناس وبذكر الشجرة التي صارت فتنة للناس.
قلنا: التقدير كأنه قيل: إنهم لما طلبوا هذه المعجزات ثم إنك لم تظهرها صار عدم ظهورها شبهة لهم في أنك لست بصادق في دعوى النبوة إلا أن وقوع هذه الشبهة لا يوهن أمرك ولا يصير سبباً لضعف حالك ألا ترى أن ذكر تلك الرؤيا صار سبباً لوقوع الشبهة العظيمة في القلوب ثم إن قوة تلك الشبهات ما أوجبت ضعفاً في أمرك ولا فتوراً في اجتماع المحقين عليك فكذلك هذه الشبهة الحاصلة بسبب عدم ظهور هذه المعجزات لا توجب فتوراً في حالك، ولا ضعفاً في أمرك، والله أعلم.
ثم قال تعالى: {وَنُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا} والمقصود منه ذكر سبب آخر في أنه تعالى ما أظهر المعجزات التي اقترحوها، وذلك لأن هؤلاء خوفوا بمخاوف الدنيا والآخرة وبشجرة الزقوم فما زادهم هذا التخويف إلا طغياناً كبيراً، وذلك يدل على قسوة قلوبهم وتماديهم في الغي والطغيان، وإذا كان الأمر كذلك فبتقدير أن يظهر الله لهم تلك المعجزات التي اقترحوها لم ينتفعوا بها ولا يزدادون إلا تمادياً في الجهل والعناد، وإذا كان كذلك، وجب في الحكمة أن لا يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات، والله أعلم.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13